شادي العدل يكتب: قصة تتكرر بوجوه جديدة

في قرى صعيد مصر، حيث تُلامس حرارة الشمس الحارقة جدران المنازل الطينية، وتتوارى ملامح الحياة الحديثة خلف غبار التراث والعادات، تُعاد كتابة التاريخ بأسلوب دموي مكرر.

محمد محسوب، الرجل الذي تحول اسمه خلال أيام إلى حديث الشوارع ووسائل التواصل، ليس مجرد “خارج عن القانون” تقتله الرصاصات أو تأخذه السجون. إنه مرآة عاكسة لمعضلة أعمق، تختلط فيها أسلحة الصعيد بفساد الأجهزة، وغضب الناس بغياب العدالة.  

قبل أيام، انتشرت فيديوهات تُظهر محسوب وهو يتبادل إطلاق النار مع قوات الأمن في ساحل أسيوط، الرجل الذي يمتلك لغة عربية فصيحة، يستخدمها ببراعة ليهتف بأنصاره، يبدو كأنه بطل فيلم حركة هوليوودي، ولكن الواقع أكثر قسوة فترسانة أسلحته الضخمة، وتاريخه الطويل مع الأمن، وتعاطف الناس الغامض معه، كلها تفاصيل تُذكرنا بحكايات سابقة مثل عزت حنفي وغيره، كلها قصص لا تنتهي إلا بطريقتين إما بجثة في الشارع، أو بصورة بطولة وهمية في عيون البعض.  

السرّ هنا ليس في محمد محسوب نفسه، بل في التربة التي نبت منها، فصعيد مصر، بجباله النائية وقرى المهمشين، تحوّل إلى ساحة لصراع ثلاثي الأبعاد، أسلحة غير مشروعة تنتشر كالنار في الهشيم، وفساد داخل أروقة الأمن يغذي الجريمة، وقانون غائب يُحلّ محله “الثأر” و”القعدة العرفية”، هذه البيئة الخصبة تُنتج رجالًا مثل محسوب، الذين يتحولون من مجرد أشخاص إلى “أساطير” تُخلّدها التعليقات على فيسبوك: “ربنا ينصره”، “الرجالة مابنتهزرش“.  

لكن لماذا هذا التعاطف مع رجل يحمل سلاحًا ضد الدولة؟ الإجابة ليست في حب الإجرام، بل في كره الفساد، فكثيرون يرون في محسوب “منتقمًا” من نظام فاسد، أو على الأقل ضحية لفساد بعض رجاله، فعندما يتحالف بعض الضباط مع تجار السلاح، أو يتغاضون عن الجريمة مقابل رشاوى، يفقد الناس إيمانهم بشرعية الدولة، وهنا، يصبح “الخارج عن القانون” بطلاً شعبيًا، ليس لأنه محق، بل لأن القانون نفسه فقد بريقه.  

المعضلة الأخرى هي السلاح. في قرى الصعيد، لم تعد البندقية مجرد أداة للدفاع عن الشرف، بل تحولت إلى عملة سياسية واقتصادية، انتشارها الواسع يجعل من السهل تحويل أي خلاف عائلي إلى مذبحة، ومن أي شخص عادي إلى زعيم عصابة. لكن السؤال الأكبر هو كيف تسللت كل هذه الأسلحة إلى أيدي الناس؟ جزء من الإجابة يكمن في شبكات الفساد التي تسمح بتدفق السلاح عبر الحدود.  

أما القانون الغائب، فهو القطعة الأخيرة في هذا المشهد، ففي مناطق كثيرة، لا يصل القضاء الرسمي إلا بعد فوات الأوان، أو لا يصل أبدًا، فالناس هناك تعوّدت على “الصلح العرفي” و”الثأر”، لأنهم ببساطة لم يروا وجه العدالة الحقيقية، حتى الدولة نفسها تتعامل مع الأزمات عبر “المصالحة العرفية” مع شيوخ العائلات، وكأنها تعترف بعجزها عن تطبيق القانون.  

الحل؟ ليست الرصاصات كافية، فمحسوب قد يسقط، لكن عشرات غيره سيظهرون بعده، والمطلوب هو قطع دورة الفساد التي تلد العنف، فتنظيف الأجهزة الأمنية من الداخل، ومحاكمة كل من تاجر بالسلاح أو بالوطن، وبناء محاكم سريعة ونزيهة، تمنح الناس سببًا للثقة، مع إغراق الصعيد بمشاريع تنموية حقيقية، بدلًا من وعود تتبخر مع أول ميزانية.  

القصة ليست عن رجل وحيد يحمل سلاحًا، بل عن نظام يحتاج إلى إصلاح، فما فائدة انتصار الأمن اليوم، إذا كان الغد سيأتي بمحسوب جديد؟ التاريخ يعلمنا أن الرصاص يقتل الأشخاص، لكنه لا يقتل الأسباب. والأسباب هنا واضحة، فساد يقتل العدالة، وضعف يقتل القانون، ويأس يقتل الوطن.

                                                                         

. .fnfu

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *