
لا أدري ما الذي ذكَّرني فجأة بذلك المشهد، الذي غاب عني ثلاثين عامًا.. في تلك الفترة كان خيالي هو الواقع الذي أحياه، وأطلُّ منه بين لحظة وأخرى إلى عالمنا الذي فُرِضَ علينا أن نتعامل معه.. كانت تسونامي الأفكار الإبداعية والجنونية تلاحقني حتى في نومي، حتى صارت الورقة والقلم لا يفارقانني حتى في نومي.
في عام 1995 التقيت في مركز الكتاب (وكنت مدير النشر على صغر سني) شخصًا عرَّفني بنفسه وأنه أخو الدكتور “ي. ع.” رسام الأطفال الذائع الصيت وقتها، وأخبرني أنه سمع عني من ناشرين، وأن الدكتور مصطفى عبد الغني أثناء عملي تحت رئاسته في مؤسسة الأهرام أطلق عليَّ الفنان المجنون، وأخبرني ذلك الشخص أن أخاه الدكتور “ي. ع.” يريد مقابلتي لـ “خير كبير”.
ذهبت معه إلى مكتب أخيه الدكتور “ي. ع.” خلف دار الدفاع الجوي بشارع النزهة، وبعد فاصل من الترحاب الحار فرَّجَني على اسكيتشات رسمها لكائنات بحرية، كانت تبدو لطيفة وحية، وأخبرني أنه كان في مؤسسة ديزني، فطلبت منه ترشيح مؤلف مصريّ خصب الخيال لكتابة فيلم عن أعماق البحار.
سألته: الفيلم عن إيه؟
قال لي: هم طلبوا مني رسم شخصيات، وقالوا عايزين رواية للأطفال في أعماق البحار بالمخلوقات البحرية.
وأخرجت من جيبي ورقتين فيهما مخلص لبعض أفكاري، منها على ما أذكر رواية كنت سأبدأ كتابتها بعنوان “حسام يتحدى راندو”، وتحكي عن جيم بطله وحش يتحدى من يفوز عليه، وأثناء اللعب يسيطر من خلال أشعة غير مرئية يسلطها من خلف الشاشة على دماغ اللاعب، ويبرمج دماغه وكأنها برنامج كمبيوتر، فيصير من جنوده؛ تمهيدًا ليكون من عبيده، ويبقى من بين كل العالم الشاب حسام، الذي لو سيطر عليه فسيبني عرشه على الكرة الأرضية، وبالفعل يسيطر عليه، وما إن يخرج من الشاشة لبناء عرشه، ويظهر على حقيقته، حتى يفاجأ بأن هزيمة حسام كانت الخدعة التي تمكن بها حسام من استدراج راندو بنفس أسلوبه؛ لتكون نهايته؛ أخذًا بقول عمر بن الخطاب “مَن خدعَكَ، فانخدعْتَ له فقد خدعْتَه”.
وكان ضمن الورقتين ملخص لرواية أخرى عن عمل زلازل وبراكين في أعماق الأرض لطرد أهلها ونهب ثرواتها، والتحكم في الضغط الجوي واختراع أمراض.
بعد أن قرأ الورقتين تحمس جدًّا، ووضعهما في درج مكتبه، وقال لي: تمام، أنا كنت مرشح لهم الكاتب العظيم “أ. ن.”، لكن كده خلاص، هاتصل بديزني، تبدأ كتابة الفيلم.
كانت فرحةً تُعجِزُ الوصفَ، وأَدَها تعقيبُه الحماسيُّ وقد تمدَّدت شفتاه بالعرض رافعةً خديها لأعلى، وأنارَ عينيه زَهْوٌ: وهتاخد ألف جنيه.
لا أدري كيف أفلت من فمي صوتٌ تَبِعَته الكلمةُ الملازمة له التي تقبل جميع علامات الإعراب (الفتح، والضم، والجر، والسكون)، وهو تصرُّف بالنسبة له كفر، وسرَى في جسدي فوران بركان من أعماق محيط يهدر بأمواج الحُمَم؛ لتخرج هذه الكلمات بأجيجها: محمد عدنان غنام مؤلف سوري خد 180 ألف دولار مقدم تعاقد لكتابة فيلم جحا التراثي (لا أذكر هل كان 180 أو 80 ألف دولار) وهياخد زيِّهم لما يسلمهم السيناريو، وتقول لي ألف جنيه؟!
تطايرت في المكان شظايا كلامي، فـ “فجَّ” في وجهي: اطلع برة.
وكان أخوه بلا حراك.. بلا تفكير..
رجعت وحدي أجرجر قدميَّ، ونسيت أني تركت له الورقتين.
عدت إلى عالمي.. خيالي الأصفى ووالأصدق والأوقع من الواقع.. كانت الأرض تتمايل بي، ولكن رأسي كان مرفوعًا. لم أكن وقتها قد تعرفت على الفنان الراحل هاني ديفيد (ويطلق عليه هاني المصري) أحد أهم القيادات في ديزني.
بعد 10 سنوات التقيت هاني.. التقيته وأنا ضمن فريق عمل بديزني، من بين مهامه ترشيح رسامين مصريين للمشاركة في أفلام الكارتون.
في تلك الفترة أنجزت بعض الأغاني والجيمز لإصدارات ديزني وورنر بروس، وعرفتُ أن قصة الفيلم ألَّفها أندرو ستانتون، والسيناريو أبدعه بوب بيترسون وديفيد رينولدز.
عرفت بعد عمر طويل أن الـ «ألف جنيه» أضاعت فرصة عمري لكتابة فيلم حصل على 4 جوائز أوسكار عام 2004.. أضاعت حلم حياتي بكتابة فيلم «نيمو».