
تقع نقابة الصحفيين في اهتمامات السفارات الأجنبية، خاصةً الولايات المتحدة وأوروبا، وتتابع انتخاباتها وتحلل نتائجها، باعتبارها انتخابات دالة تُعطي مؤشرات وتبني عليها تصورات لما هو آتٍ.
حكى لي النقيب الراحل حسين فهمي، الذي أسس اتحاد الصحفيين العرب عام 1964 وكان أول رئيس له، أن مندوبًا من السفارة الأمريكية وبعض سفارات الدول الأوروبية – في بعض الفترات – كان يقف على الرصيف المقابل للنقابة يوم انتخابات الصحفيين لمتابعتها وحتى إعلان النتيجة.
وظلت السفارة الأمريكية تحاول عبر وسائل متعددة أن تكون قريبة من المشهد الإعلامي والصحفي، بالوسائل الناعمة أحيانًا (مثل منح التدريب والدورات اللغوية وغيرها)، وأحيانًا أخرى بطريقة خشنة استدعت الوقوف عندها واتخاذ موقف منها والرد عليها. ففي شهر سبتمبر عام 2002، فوجئت الأوساط الصحفية والسياسية بمقال غريب للسفير الأمريكي بالقاهرة، ديفيد وولش، نشر في صفحة الرأي بجرائد الأهرام، يدعو فيه بشكل سافر رؤساء تحرير الصحف المصرية إلى مراقبة ومنع نشر مقالات وآراء الكتاب التي لا تتفق مع وجهة النظر الأمريكية بشأن مسؤولية تنظيم القاعدة عن أحداث 11 سبتمبر، مما دعا هيئة مكتب مجلس النقابة برئاسة النقيب إبراهيم نافع (كان رئيس تحرير ومجلس إدارة مؤسسة الأهرام!) وعضوية كل من رجائي الميرغني وعبدالعال الباقوري وممدوح الولي ويحيى قلاش، إلى عقد اجتماع تقرر فيه رفض وإدانة مضمون ما جاء في المقال، والتعبير عن الدهشة من تجاهل السفير الأمريكي لمبدأ حرية التعبير والنشر المستقر في الدساتير والمفاهيم الديمقراطية، والأسف لمحاولته تسخير هذا المبدأ لصالح وجهة نظر الإدارة الأمريكية دون سواها، واعتبر المجلس تدخل السفير في سياسات النشر الخاصة بالصحف المصرية أمرًا غير مقبول ويمس استقلال الصحافة.
وفي أكتوبر 2003، أدان مجلس النقابة برئاسة النقيب جلال عارف تصريحات أخرى للسفير نفسه تدعو إلى قمع الصحافة المصرية واتهامها بالعدوانية والخروج عن التقاليد الإعلامية، واتهمه لجريدة الجمهورية بعدم الأمانة لوصفها إحدى عمليات المقاومة بأنها “عمل فدائي”. وخاطب المجلس الخارجية المصرية لاستدعاء السفير الأمريكي لإبلاغه باحتجاج النقابة وجموع الصحفيين، والتأكيد على التزامه بالتقاليد الدبلوماسية وأنه ليس مندوبًا ساميًا لبلاده في مصر.
ودعا المجلس المؤسسات والصحفيين والمثقفين بعدم التعامل مع هذا السفير، واعتبره شخصًا غير مرغوب فيه لعدائه لحرية الصحافة ولانحيازه الفج للكيان الصهيوني وخدمة مخططاته ضد دول المنطقة على حساب الشعب الفلسطيني.
وفي أواخر الشهر نفسه، قرر المجلس رفض قبول منحة هيئة المعونة الأمريكية، وقدرها 1.35 مليون دولار مخصصة لتدريب خمسين صحفيًا بإحدى الجامعات الأمريكية الصغيرة (كنتاكي)، وأكد المجلس أن رفضه ينبع من مبدأ أساسي يتمثل في عدم قبول أي منح مشروطة وغير شفافة وتثير علامات استفهام، أو تلك التي لا تلبي البرامج التي صممتها النقابة في إطار الأولويات والاحتياجات الحقيقية للصحفيين. وأخطر مجلس النقابة الدكتورة فايزة أبو النجا، وزيرة التعاون الدولي، برفض النقابة للمنحة وبيّن حيثيات هذا الرفض.
وأتذكر عندما طلب سفراء دول الاتحاد الأوروبي، مجتمعين، لقاء النقيب جلال عارف بعد نجاحه في مواجهة الزميل الراحل صلاح منتصر، وامتد اللقاء لنحو ساعتين بمقر النقابة للبحث عن دلالة نجاح هذا المرشح في هذا التوقيت.
وأعتقد أن الاهتمام – بشكل عام – بانتخابات نقابة الصحفيين لم يخبت ولم يتراجع مهما بهتت صورة المشهد أو تراجع دوّي صداها. وهذا أيضًا يحملنا مسؤولية أن نكون شركاء في مشهد انتخابي يترفع عن الصغائر ويطرح القضايا الحقيقية دفاعًا عن المهنة وحقوق الصحفيين؛ مشهد تقوده الجمعية العمومية بأمالها وآلامها ولا تحركه أيادٍ خفية في حجرات مظلمة تشيع الفتنة وتدبج التقارير المزيفة وتسعى لتدخلات ثبت عدم جدواها.
نريد مشهدًا يليق بنا وبتاريخ ودور الصحافة المصرية مهما كان بؤس الحال.